كتب قداسة القس بوللا فؤاد رياض- كاهن كنيسة المطرية بالقاهرة
الصوم الكبير رحلة توبة
الصوم في مفهومه هو انقطاع عن الطعام فترة معينة، يعقبها أكل نباتي (خالي من الدسم الحيواني) فلابد من فترة انقطاع لأننا لو أكلنا من بدء اليوم بدون انقطاع صرنا نباتيين وليس صائمين، وحتى الصوم في اللغة هو الامتناع أو الانقطاع، فلابد إذن أن نمتنع عن الطعام لفترة معينة.
لماذا الصوم النباتي؟
كان الطعام الذي قدمه الرب لآدم وحواء في الفردوس (إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكُمْ كُلَّ بَقْلٍ يُبْزِرُ بِزْرًا عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، وَكُلَّ شَجَرٍ فِيهِ ثَمَرُ شَجَرٍ يُبْزِرُ بِزْرًا لَكُمْ يَكُونُ طَعَامًا.) ( تك ١ : ٢٩ ) أي أنه كان طعامًا نباتيًا، وكانت الحيوانات كلها تأكل طعامًا نباتيًا وهو العشب (وَلِكُلِّ حَيَوَانِ الأَرْضِ وَكُلِّ طَيْرِ السَّمَاءِ وَكُلِّ دَبَّابَةٍ عَلَى الأَرْضِ فِيهَا نَفْسٌ حَيَّةٌ، أَعْطَيْتُ كُلَّ عُشْبٍ أَخْضَرَ طَعَامًا) ( تك ١ : ٣٠ ) وبعد طرد الانسان من الجنة، بقى ايضًا نباتيًا ولكنه إلى جوار البقول وثمار الأرض أعطيَ أن يأكل من عشب الأرض أي من الخضروات، فقال له الرب بعد الخطية (وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ) ( تك ٣ : ١٨ ). لم يسمح الله للإنسان بأكل اللحم إلا بعد فُلك نوح، وكان العالم قد هبط مستواه جدًا للدرجة التي ألجأت الرب إلى الطوفان. قال الله لأبينا نوح وبنيه (كُلُّ دَابَّةٍ حَيَّةٍ تَكُونُ لَكُمْ طَعَامًا. كَالْعُشْبِ الأَخْضَرِ دَفَعْتُ إِلَيْكُمُ الْجَمِيعَ. غَيْرَ أَنَّ لَحْمًا بِحَيَاتِهِ، دَمِهِ، لاَ تَأْكُلُوهُ.) ( تك ٩ : ٣-٤ ) ولما قاد الله شعبه في البرية أطعمه طعاماً نباتيا هو المن (وَهُوَ كَبِزْرِ الْكُزْبَرَةِ، أَبْيَضُ، وَطَعْمُهُ كَرِقَاق بِعَسَل) ( خر ١٦ : ٣١ )
ولم يُسمح بأكل اللحم (السلوى) إلا بعد تذمرهم وبكائهم وهبوط مستواهم، ومع عطية اللحم ضربهم ضربة شديدة فمات منهم كثيرون، لأنهم هناك استحبوا أكل اللحم، الأكل النباتي أيضا كان طعام دانيال النبي واصحابه إذ كانوا يأكلون القطَاني أي البقول ( دا ١٢ : ١ ) ، (أَمَّا دَانِيآلُ فَجَعَلَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لاَ يَتَنَجَّسُ بِأَطَايِبِ الْمَلِكِ وَلاَ بِخَمْرِ مَشْرُوبِهِ) ( دا 3 : 8 ) وصارت صحتهم أفضل من كل غلمان الملك، وكان الطعام النباتي أكل حزقيال النبي في صومه، و فعل ذلك بأمر إلهي إذ قال له الرب: (وَخُذْ أَنْتَ لِنَفْسِكَ قَمْحًا وَشَعِيرًا وَفُولًا وَعَدَسًا وَدُخْنًا وَكَرْسَنَّةَ) ( حز ٤ : ٩ ) والطعام النباتي يتميز بأنه طعام خفيف بعيد عن الشهوة التي تثير الجسد، ونلاحظ أنه حتى في الحيوانات المتوحشة منها آكلة اللحوم والأليفة منها آكلة النباتات، والمعروف أن النباتيين أكثر هدوء في طباعهم من آكلي اللحوم، وأكثرهم صحة وحيوية.
الصوم الكبير المقدس، رحلة نعيش فيها معنى إيماننا وحياتنا وعضويتنا في الكنيسة. فترة الصوم هي ينبوع روحي تُعيدنا للنظام الحقيقي والأصيل للرؤية الصحيحة نحو بوصلة عودتنا من منفى الغربة عن الله والعودة إلى الحياة الأبوية.
إنها مسيرة رجوع وتذلل وعبادة وسجود واسترحام وترك الكورة البعيدة للشبع بالكلمة المتجسد.
بالصوم نسير طريق التوبة فلنصم عن كل شر بطهارة وبر ولا تسودنا الخطية.
في الصوم نجاهد لنضبط أنفسنا في كل شيء وبإصرار نرفض تذكارات الشر وحيل إبليس .
في رحلة الصوم الكبير ندخل إلى السر العجيب سر اسبوع الآلام والتضحية والقيامة.
يعلمنا الصوم كيف نجاهد ضد كل مكائد وحيل ابليس والظفر على المجرب (وَأَمَّا هذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ) ( مت ١٧ : ٢١ ) ففي الصوم نستبدل الجوع بالشبع، لقد طُردنا من الفردوس لأننا لم نصم، لذلك نصوم حتى نعود إليه .
نصارع الأفاعي والشر والخطايا والآثام فننال استحقاق الكنز السمائي (أحد الكنوز)، ونعمة النصرة (أحد التجربة)، وفرحة الرجوع والوليمة (أحد الابن الضال)، وماء الحياة (أحد السامرية)، ونعمة الإستنارة (أحد المولود أعمى). صوم الأطعمة لن ينفعنا شيئا إلا إذا اقترن بصوم الحواس وروح التوبة عن الخطايا وبالمواظبة على الصلاة.
لن ننتفع بصومنا إلا إذا اقترن بقانون المحبة والغفران، لأنه ليس مجرد استبدال لأنواع من الأطعمة، لكنه استبدال وتغيير للذهن والسلوك. إذ لا يمكننا أن نبحث لنقتني الله غير المنظور بلغة المتطورات. لن يكون لصومنا بهاء إلا إذا امتنعنا عن الشرور (ونحن أيضًا فلنصم عن كل شر بطهارة وبر) لانه كيف لنا أن نمتنع عن أكل اللحوم لنعود للحياة الفردوسية بينما نحن ننهش لحوم بعضنا بعضًا بالنميمة والدينونة، والافتراءات والتحامل، والكراهية. كذلك كيف نصوم بينما نحن نأكل حقوق الآخرين! كيف نصوم عن الماء بينما نسكر باللذات والملذات والشهوات الذاتية! كيف لم ننتفع من الشبع الروحي الكنسي (الصوم الكبير) ما دمنا لا نحيا بكل كلمة تخرج من فم الله، وما دمنا نسجد لآلهة العالم، ونعيش من أجل ممالك هذا الزمان. لن ننتفع إذا صُمنا بالجسد من دون صوم الروح، ومن دون عزل شر أفعالنا أمام عيني الله، لن نجني ثمار الصوم إذا امتنع جسدنا عن غذائه المعتاد، بينما أرواحنا شاردة طائشة منقسمة بالرذائل والتجاديف، ومادامت حواسنا مُنحلة فما هو مُحرم وغير لائق علامة الصوم تصير بالكف عن فعل الشر وبتعلم فعل الخير. نطلب الحق، نُنصف المظلوم، نقضي لليتيم، نُحامي عن الأرملة. لنصُم صومنا المشترك مع الكنيسة عبر الأجيال، ونسلك كما سلك ذاك الذي صام عنا أربعين نهارًا وأربعين ليلة، نصوم معه لأنه هو الوصية، والاساس لجميعنا فيتحقق ايماننا بالعمل وطاعة الوصية. في عمل مشيئته سنحيا وطعامنا الروحي الحقيقي يغنينا بثمار الفردوس. الصوم الحقيقي المقبول هو كسر الخبز للجائع، وقبول المساكين والتائهين، وكساء العريان، وخدمة المحتاجين، أي يصير صومنا مقبولاً بفعل المحبة الأخوية، وبعمل الخير مع العريان والجوعان والمظلوم والمسجون والمسحوق. قوة دفع الصوم تقود أجسادنا لترتقي إلى فوق "إلى الفردوس" في الصوم نتجه من الأرض إلى المُطلق الأبدي، فالصوم المسيحي إذن لا يقف عند الانقطاع عن الطعام، ولكنه صوم متجه نحو الحواس والقلب صوم الكيان بجملته. لقد صام السيد المسيح بنفسه لكي يعلمنا الصوم، صام وهو غير محتاج لأن يصوم، لكنه وضع لنا طريقة الصوم لكي نسلكها في رحلتنا الأبدية، لذا يسمى الصوم الكبير بأنه "صوم سيدي" لأن سيدنا جميعنا صامه لأجلنا، إنه صوم الالام وفصح القيامة فإن كان آدم الأول سقط وطُرد من الفردوس بسبب العصيان والأكل، فإن المسيح (آدم الثاني) ردنا مرة آخرى إلى الفردوس، وأعطانا الغلبة بسلاح الصوم. كذلك عندما نأكل الأطعمة النباتية في الصوم نتذكر الحياة الفردوسية التي نُفينا منها وصرنا في أراضي النفي (ونفينا من فردوس النعيم) وكأننا في هذا الصوم الفصحى الكبير نصعد إلى فوق نحو السماء مع المسيح (الطريق)، ونصوم حسب مشيئته عابرين من برية تجارب هذا العالم إلى الفردوس، سالكين كما سلك مسيحنا الذي صام عنا ليعلمنا، ويشكلنا، ويدربنا، ويوضح لنا طريق الدخول للمنازل الكثيرة. في الصوم الكبير ربيعنا الروحي نقتدي بالمسيح مخلصنا الذي صام ليحل قيود شرنا، ويفك عقدة نيرنا، ويطلقنا مع كل المسجونين احرارًا، ويقطع عنا كل نير وكل رُبط الخطية، فننتصر في تجاربنا ونرجع مع الابن الضال، ومع السامرية، ومع المخلع، ومع المولود أعمى، ومع كل ضال، وكل مخلع، وكل أعمى، لنتمتع بوليمة الآب السماوي، وبالحلة الملوكية، وبالذبيحة السمينة، وبختم الحماية، والضمانة الإلهية، ونشرب كأس الخلاص، وماء الراحة المُحيية، تاركين السيرة العتيقة. الصوم قد وُضع ناموسه في الفردوس وهو أول وصية أخذها آدم، وحينما لم يصُم طُرد من الفردوس، والآن عندما نصوم نعود إليه ونُطعم من المائدة التي في الملكوت المحفوظة لنا، ولكي يصير صومنا مقبولاً نمتنع عن الشهوات والنميمة والحقد والطمع والغضب لأننا نصوم لأبينا الذي في السماوات ونسلك فيه (فيتامين ٣ص) (صوم صلاة صدقة) فلنصم مع المخلص لنتمجد معه، ونغلب الشيطان لأن هذا الجنس لا يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم، ونسلك رحلة الصوم التي تبدا بأحد الرفاع، ثم الكنوز، والتجربة، والابن الراجع، والسامرية، والمخلع، والمولود أعمى، وصولاً إلى البصخة المقدسة حتى نسير رحلة رجوعنا منفى الغربة عن الله إلى فرح الشركة في بيت الآب.
صوم النفس:
لا يكفي الصوم الخارجي عن أطعمة منظورة، ولكن المهم نقاوة القلب، وطهارة الجسد والنفس.
صوم الحواس:
له أهمية أن نصوم جميع الحواس (النظر، السمع، واللمس، الكلام، والفكر)
أقوال الأباء عن الصوم:
* أقوال أبونا بيشوي كامل عن الصوم:
- الصوم ليس فرضًا أو عبئًا، ولكنه احتياج يسعى إليه القلب.
- ليس الصوم تعذيبًا للجسد، بل انطلاقًا للروح، للسير في معية الرب يسوع، يؤهل الشخص الصائم صومًا مقبولاً لعشرة الملائكة ويدعونه الرجل المحبوب (دا ١)
- الصوم ليس مجرد انقطاع عن الأكل، ولكنه صلب للذة شراهة الأكل.
- الصوم هو الوسيلة لضبط الأهواء والشهوات حتى تنسجم حياة المسيحي مع روح الله الذي يقوده في طاعة وخضوع
- ينبغي أن تكون أصوامنا وعبادتنا داخل إطار القصد الإلهي في حياتنا، لذلك لو لم نعطى الفرصة أمام الله ليحقق قصده فينا نكون قد خيبنا أمل الله فينا، وهذا أشد ما يحزن قلب الله.
- الصوم مع الصلاة وسيلة توصلني بالإيمان إلى اتمام قصد الله في.
- الصوم مع التذلل يُحرر النفس من الذات، ومن الرباطات المادية، فتنطلق تائبة إلى حضن الآب وصارخة "يا أبا الآب" (رو ٨ : ١٥ )
- الصوم يُعني صلب الذات، الصوم يبدأ بالتوبة، وينتهي بالقيامة.
- الصوم يتقدم كل الفضائل لأن فيه جمال البتولية، وحفظ العفة، وأب الصلاة، ونبع الهدوء، ومعلم السكون، وبشير الخيرات [القديس مار اسحق السرياني]
كل عام وأنتم بخير
القس بولا فؤاد رياض
كاهن كنيسة مار جرجس المطرية القاهرة