كتب - اشرف أيوب معوض
باحث فى التراث الشعبى
في كل مرة أنظر إليه أراه فارسًا شجاعًا ممتطيًا جواده الأبيض مسددًا حربته الماضية إلى التنين المخيف قافزًابجواده في الهواء ظافرًا منتصرًا يهب لنجدة كل مستغيث به .
الشخصية الحقيقية لمار جرجس :
ما من كنيسة إلا وتحمل أيقوناتها صورة القديس وما من بلد إلا وتحمل كنائسها اسم هذا البطل مار جرجس .
هذا البطل القائد في الجيش الروماني الذي كان يدعو إلى المسيحية وواجه الإمبراطور نفسه محدثًا إياه عن ظلمه واضطهاده للمسيحيين والذي رفض أن يسجد ويبخر للأصنام .
فقد عاش بطلًا متحملًا عذابات واضطهاد الإمبراطور ثم مات شهيدًا على اسم المسيح .
مار جرجس في الحس الشعبي :
ارتبط الأقباط بالقديسين والشهداء على مر العصور بصلة حميمة فهم يتعايشون مع هؤلاء القديسين لحظة بلحظة ومن وسائل هذه الصلة .. طلب الشفاعة ، نذر النذور ، إيقاد الشموع كما أنهم يسمون أولادهم بأسماء هؤلاء القديسين تذكرة بهم .
وهكذا فإن هؤلاء القديسين وخاصة البطل الشهيد مار جرجس ليعيشون في وجدان الفنان الشعبي الذي تأثر بهم وتفنن في رسم مار جرجس على الأواني الخزفية والخشب المضغوط وأطباق البلاستيك والمناديل والميداليات وتماثيل الجبس .. كذلك حظيت الحلي الذهبية بجميع أنواعها بشكل كبير على صورة مار جرجس .
كما نرى أيضاً أن أكثر الرسوم شيوعًا في الوشم المسيحي ،كانت الصليب ومار جرجس .
أيقونة مار جرجس :
ها هو البطل راكبًا على جواده الأشهب يطعن تنيناً أسفله وها هي العروس الواقفة في أقصى الصورة تنتظر خلاصها ..
وفيما يلي تحليل لهذه الصورة :
فهناك رأي يقول : أن صورة مار جرجس الفارس الذي يطعن التنين جاءت من مصر وكانت مستوحاه من مصر الفرعونية عن نحت يمثل الإله حورس ( إله الحياة عن الفراعنة ) وهو يطعن بالحربة تمساحاً كان يرمز به للشر وهذا النحت موجود في المتحف المصري ويوجد نحت آخر في أخميم وآخر في مجموعة فيكتوريا وألبرت بمتحف لندن .. وظل التصوير حورس فوق الحصان وهو يطعن التمساح في وجدان المصريين ولم يكن مرفوضاً.. لأنه كان يرمز للخير والانتصار على الشر .. ولما جاءت المسيحية ظهر الفارس الروماني ليستعيد صورة حورس والتي تمثل مار جرجس الذي قاوم الشر دفاعاً عن الإيمان المسيحي .
وهناك رأي ثاني يقول :إن القصة الحقيقية للقديس والتي كان فيها بالفعل بطلاً وفارساً وقاوم الإمبراطور وجاهد في سبيل الكنيسة ربما قد أوحت هذه القصة الحقيقية للفنان الإيطالي المشهور روفائيل لرسم لوحته المشهورة (مار جرجس الروماني ) والمحفوظة نسختها الأصلية بمتحف اللوفر بباريس والتي طبعت وما تزال تطبع حتى الآن والتي رمز فيها للتنين بالشيطان أو بالوثنية أو دقلديانوس وأن هذه العروس الواقفة هي الكنيسة .. ومازال حتى الآن تفسر الصورة بهذه الرمزية .
وهناك رأي ثالث يقول : أن هذه الصورة تجسيدًا لأسطورة شعبية كانت تتداول بين الناس وتحكي هذه القصة أنه بالقرب من مدينة بيروت أن هناك تنينًا اعتاد أن يأتي كل عام في مجرى النهر ويمنع تدفق المياه فسرعان ما تلوح علامات المجاعة والعطش ومن ثم يسارع سكان بيروت الغربيين إلى اختيار فتاة عذراء بطريق القرعة فيلقونها خارج الأسوار بجوار التنين المخيف الذي يفترس الفتاة وينصرف .. عندئذ يتدفق الماء إلى أن يعود التنين مرة أخرى في العام الذي يليه .
وفي أحد الأعوام جاءت القرعة على الابنة الوحيدة لسلطان المدينة ولم يكن مفر للسلطان أن يقدم ابنته .. فأخذ يبكي هو وزوجته وأخذ يتوسل لكبار رجال المدينة أن يتركوا له ابنته في نظير الأموال وعرض نصف مملكته ثمناً لسلامة ابنته .. لكن ذهبت دموعه وتوسلاته أدراج الرياح .
وجاء الميعاد وألبسوا الفتاة الضحية ثياباً ملوكية مرصعة بالجواهر وزفوها بالدموع والبكاء وأخرجوها خارجاً لتنتظر مصيرها المحتوم مع التنين .. وبينما الفتاة تنتظر مصيرها وهي خائفة إذا بفارس على حصان أبيض يأتي إليها فتخاف عليه من الثعبان وترجوه أن يهرب بسرعة فيقول لها البطل مار جرجس قد أتيت لإنقاذك .. وبعدما يدور حديث بينه وبين العذراء وبينه وبين التنين كما في الملحمة الشعرية يطعنه البطل في عينيه فيسيل دمه على شكل صلبان وتعود الفتاة سالمة إلى أهلها فيفرح أهل المدينة ويؤمنون بإله مار جرجس ويبنون له كنيسة على اسمه .
هذا هو الإطار العام للأسطورة أو القصة وهي مكتوبة بصورة شعرية (فن شعبي) ( في 622 بيت شعر ، طبعت على نفقة مرقس جرجس سنة 1941م طبعة خاصة ).
ومازال حتى الآن ولكن بصورة نادرة ، نرى بعض الفنانين الشعبيين يتغنون بهذه القصة الشعرية على آلة الربابة في موالد القديسين ومن أمثلتهم الفنان الشعبي مكرم المنياوي والفنان الشعبي وهبة جرس وهم يطلقون عليها مديحة مار جرجس الروماني وهي أيضاً مسجلة على شرائط الكاسيت .
وسنعرض فيما يلي بعضًا من أبيات القصة الشعرية : ولنرى جمال وبراعة هذا الفن في تصوير البطولة وكذا في تصوير الحالة الشعورية للفتاة بنت السلطان وهي ذاهبة لتواجه مصيرهاً .
ونلاحظ هنا أن المغني أو الراوي يبدأ القصة بهذه البداية :
أبدي باسم الله ربي
وأجيب القول من عندي
مالي بالدنيا مالي
من فكري وضمير قلبي
في وصف فخر الشجعان
قلبي أحبك يا روماني
وبعد ذلك يأخذنا الراوي حتى يصل في وصف حالة السلطان عندما علم أن القرعة جاءت على ابنته فينادي البطل مار جرجس لينقذ ابنته :
أنا محسوبك يا جورجيوس
أنا جيت لك مخصوص
أنا أخذتك عوني وسندي
أنقذ وحيدة محسوبك
أوريني فيها شجاعتك
يا صاحب الهمة يا مأنوس
تنقذ بنتي من الثعبان
أنقذها لي يا روماني
وحياة يسوع محبوبك
لا يأكلها الثعبان
ويصل بنا الراوي ليصور حالة بنت السلطان عندما عرفت أنها ستزف للثعبان :
والبنت تبكي وحالة الشعر
ودمع البنت كان يجري
وتقول يا ويلي يا وعدي
خارج البلد ما تودوني
أمانة يا أمي خبيني
لماذا يا أمي ولدتيني
يا أمي اقتليني بالحربة
أنا نفسي أنظر التربة
وأمها حزينة يا أخواني
على خدودها شبه النهر
من نهش ناب الثعبان
قلبي خايف من الثعبان
خارج البلد ما توديني
يا حسرتي من الثعبان
وأنت يا أبي قوي الضربة
ولا أنظر وجه الثعبان
وبالفعل خرجت العروس وهي في أبهى حلة لها كأنها سوف تزف وأخرجوها خارج الأسوار وأغلقوا عليها أبواب المدينة وهي تبكي ناظرة ذلك الثعبان المخيف الراقد في النهر ، وإذ بها ترى فارساً راكباً على جواده واقترب منها وفي عينه قوة للثعبان وتحنن على الفتاة
وإذ به يخاطبها :
قال البطل شدي حيلك
واطمئني على حالك
للتنين جاي متعني
وعن الثعبان لا أعفي
وأعلمي جرجس جالك
أنا جرجس الروماني
وإلهي قد أرسلني
وأقتله في الوديان
ويصل بنا الرواي إلى مشهد البطولة ويشد بوتره على الربابة لتشرئب أعناق المستمعين وهم في نشوة بالغة واشتياق لما سوف يحدث :
قال البطل افتح فمك
خذ دي الهدية تكون لك
هز السنان لما شعشع
وجاء الوحش الأروع
والطعنة جاءت في النني
قال له هدية لك مني
وسقاه السم بالشربة
وأصغي لقولي وأنا أقولك
تشبع بها في الوديان
نوره يضوي ويلمع
وطعنه بها في العين
جرجس آتي له متعني
حافظ عليها يا ثعبان
وطرحه ورماه في الوديان
ثم نراه يخاطب العروسة التي فرحت جداً لأنه خلصها من ذلك الثعبان :
وقال للبنت أين خصمك
هيا إلى أبيك وأمك
وغاب عنها يا سامعين
نظرت شمالاً حقاً ويمين
خرج الأكابر والعسكر
فوق كتفها برنس أخضر
أنا قتلته قدام عينيك
وافرحي في الأوطان
وصعد إلى رب العالمين
ما رأته يا أخواني
وجدوا العروسة تتمخطر
أهداه لها الروماني
دخل الوزير يا أخواني
قال له البشارة يا سلطان
بنتك حية تتمخطر
للملك ف القصر الفوقاني
بنتك خلصها الروماني
فوق كتفها برنس أخضر
وفي النهاية يجمع السلطان أهل البلد ليهدموا الأصنام وليبنوا كنيسة باسم القديس كما تحكيها الرواية .
نقد النص كما ورد :
وإذا تعرضت هذه القصة للنقد فهناك رأيان :
1- فريق يقول أنها قصة من وحي خيال الفنان الشعبي المسيحي لأن جميع ميامر القديس القديمة تخلوا من هذه القصة كما أن جميع سنكسارات الكنائس الرسولية تخلوا منها أيضاً .. كما يقولون أنه من غير الممكن والمعقول وجود تنين بمثل هذا الحجم المهول فهو حيوان أسطوري .
2- ولكن هناك رأي آخر يؤيد القدرة المعجزية للقديس وقدرته على عمل أعمال خارقة للطبيعة بصفة أنه قديس .. وأن الفنان الشعبي قد نسج حول معجزة ما تشبه هذه القصة فنه وأزاده بخياله وأحكمه حبكة وبلاغة حتى نظم قصة رائعة .
من كل هذا نرى أن هذه الصورة سواء كانت مستوحاة من الفن المصري القديم أو من الأسطورة الشعبية أو من رمزية الرسام والتي ربما استوحاها من القصة الحقيقية . فإنها تقول أن هذا القديس كان بالفعل بطلاً وفارساً وجاهد في سبيل الكنيسة وانتصر على الشر .او هى بالفعل صورة رمزية لانتصار الخير على الشر كما كانت صورة ونحت حورس وهو يطعن التنين وهذه الصورة التى عاشت فى وجدان المصريين.مازالت حية وان تغيرت ألوانها عبر التاريخ .